************
مصر شعب عظيم، له تاريخ، وحضارة، وسبعة آلاف عام من تلك الحضارة، وأهرامات، وكرم، وشهامة، وتكافل، و... و...
بذمتكم هل تصدقون حرفاً واحداً من كل هذا؟!.. هل تشعرون به، في أي مكان حولكم... هل ترون الحضارة، أو الشهامة، أو الكرم، أو حسن المعاملة، أو حتى الابتسامة؟!..
الحقيقة التي ينبغي أن نعترف بها جميعاً هي أننا ربما كنا شعباً عظيماً ذات يوم...
ربما كانت عندنا الشهامة...
والكرامة...
والرحمة...
والصدق...
وحتى حسن الجوار!!..
ولكننا في الواقع وبمنتهى الصدق لم نعد أبداً كذلك...
بل لم تعد لدينا لمحة واحدة منه...
ولو أن أحداً أراد أن يعترض على هذا، فليرجع معي إلى النماذج التالية، من قلب شعبنا، الشهم، الرحيم:
استرجعوا معي مشهد بعض الصبية في الشارع، وقد ربطوا جرواً صغيراً بحبل سميك من رقبته، وراحوا يجرجرونه خلفهم، ويعذبونه، ويضربونه، والجرو المسكين ينوح ويعوي ألماً، وعواؤه يمتزج بضحكاتهم المرحة، وكأنهم يقومون بعمل لطيف ممتع...
راجع معي مشهد طفل صغير شاهَدَ قطاً نائماً عند قاعدة سيارة قديمة، فاندفع نحوه، لا ليربت عليه في حنان، ولكن ليركله بمنتهى القوة والعنف...
أخبـِرني عن سبب واحد يجعل قط الشارع عندنا يفزع منك ويخشاك ويعدو فارّاً منك إذا ما حاولت الاقتراب منه، وعلى الرغم من أنه في بلاد أخرى يأتى ليستمتع بك، ويرقد إلى جوارك، ويروح في سبات عميق، هادئاً مطمئناً إلى أنك لن تحاول إيذاءه، بأي حال من الأحوال...
كم مرة رأيت أماً تعنف طفلها، أو تصفعه في قسوة على وجهه، وسط الشارع، أو وسط حفل كبير، وكم مرة رأيت والداً يفعلها بابنه أو ابنته، دون أن يحاول مخلوق واحد تنبيهه إلى ما سيسببه هذا من مشكلات لنفسية الطفل ونموه المستقبلي...
بل كم منا يدرك أنه هناك ما يُعرف بالنفسية؟!
كل هذا مجرد نماذج عامة، قد يستنكرها بعضكم، أو لا يراها ذات صلة بطبيعة شعبنا باعتبارها مجرد نماذج فردية...
دعونا إذن ننتقل إلى النماذج الفعلية..
النماذج التي سجلتها الصحف... القومية...
عم" حسن" شيخ على المعاش، أرمل وله خمسة أبناء... ثلاثة ذكور وأنثيين... ولقد كافح عم "حسن" حتى أكمل تعليم أبنائه، واستدان من طوب الأرض، وزوّجهم، واطمأن إلى أن كل واحد منهم قد استقر في منزله آمناً مطمئناً...
ولكن بعدها بقي عم "حسن" في منزله وحده، يرعى نفسه بنفسه، يطهو طعامه، ويغسل ثيابه، وينظف مكانه، وأولاده وابنتاه منشغلون بأحوالهم، ولا يزورونه إلا مرة كل أسبوع، تباعدت حتى أصبحت كل أسبوعين، ثم كل شهر، ثم راحوا يختلفون لتوزيع تلك الزيارة الشهرية على بعضهم البعض، ليقوم بها واحد منهم فحسب كل مرة، وحتى بدون أسرته...
وثقل هذا على عم "حسن" ولكنه كتم حزنه في قلبه، وقبع صابراً مستكيناً في منزله، وحتى جيرانه لم يحاول أحدهم أن يطرق بابه، ولو من باب السؤال والمجاملة، أو يتساءل حتى كيف تسير به الأمور... الجميع انشغلوا عنه تماماً، وهو ظل يكتم في قلبه، ويكتم، ويكتم، حتى ناء قلبه بحمله، فانهار ذات يوم وتوقف، وسقط عم حسن صريعاً بأزمة قلبية، في قلب منزله...
ولأن أحداً لا يسأل عنه أو يطرق بابه، فقد ظلت جثته ملقاة هناك حتى بدأت تتحلل، فجذبت رائحتها انتباه زبال المنطقة الذي أبلغ حارس العقار، الذي أبلغ أحد أبناء عم "حسن" بدوره، فترك الابن عمله متضرراً، وذهب إلى منزل والده، ليجده وقد كان تحول إلى هيكل عظمي...
حدث هذا في يونيو 1999م، في مصر الرحمة والشهامة والكرم وحسن الجوار...
"سامية" فتاة شابة، في منتصف العشرينات من عمرها، حصلت على دبلوم تجارة، وجلست في منزلها لمدة عامين، قبل أن تعثر على عمل كبائعة في محل ملابس صغير، كانت تبدأ عملها فيه في العاشرة صباحاً، وتنتهي منه في العاشرة مساءً دون استراحة...
وقبلت "سامية" هذا العمل واحتملته ما دام يمنحها في آخر كل شهر جنيهات قليلة، تكفي بالكاد لمصروفاتها الشخصية، حتى لا تمد يدها لوالدها طالبة المصروف، وهو الذي يعمل ليل نهار على الرغم من مرضه؛ ليعول زوجته المريضة وأشقاءها الأربعة...
وذات يوم، وبينما تتجه "سامية" إلى عملها في صباح أحد أيام الجمعة، وأمام ملاهي السندباد في مصر الجديدة في التاسعة صباحاً، توقف إلى جوارها ميكروباص، وهبط منه شابان، اختطفاها بالقوة، من وسط الطريق، فراحت تصرخ، وتستنجد بالمارة أن ينقذها أحد، ولكن شخصاً واحداً لم يتحرك لإنقاذها وإنما ظلوا جميعاً في حالة من البلادة والخوف، حتى انطلق بها الميكروباص...
ولولا أن أحد المارة قد التقط رقم لوحاته، لما أمكن للشرطة أن تنقذها من الاعتداء في اللحظة الأخيرة...
حدث هذا بالطبع في مصر الشهامة والرجولة، في مارس 2002....
بلطجي يسيطر على حي بأكمله ويفعل فيه ما يشاء، تحت سمع وبصر سكان الحي، بل ورجال الشرطة أنفسهم، ولأن الكل صامت وساكت وصابر ومستكين، وراضٍ بنصيبه تمادى ذلك البلطجي، فقرر أن يمارس أعمالاً منافية للآداب على قارعة الطريق، وأسفل شرفة منزل فيه شابان لم يرضيا بما يحدث، فنهراه بشدة ومنعاه من مواصلة أعمالة القذرة تحت شُرْفتهما، فأضمر لهما شراً، وافتعل معهما مشاجرة في صباح اليوم التالي، وقتلهما واحداً بعد الآخر، عياناً بياناً، وسط الطريق، وأمام عيون الجميع..
ودون أن يتدخل أحد...
حدث هذا في بلد الحضارة والشهامة والرجولة...
في مصر
في نهايات عام 2008 م...
مدرس شاب غضب على طفل في المرحلة الإعدادية، وأراد أن يعاقبه بالضرب، على الرغم من أن هذا ممنوع قانوناً، ومن أنه ليس من الرجولة في شيء، أن يقوى كبير على صغير، لا حول له ولا قوة، ولكن الصغير كانت لديه كرامة، ورفض أن يعاقبه المعلم بالضرب، فزاد غضب المعلم، وأخرجه خارج الفصل وراح يضربه ويلكمه، وكأنه في حلبة ملاكمة، والصغير -ولأنه صغير- غير قادر على التصدي له، حتى ضربه المدرس بركبته في صدره، فكسرت له ثلاث أضلاع من شدة الضربة، وأصابه بصدمة قلبية، أدت إلى وفاته...
حدث هذا في مصر الرحمة، عام 2008م...
هذه ليست النماذج الوحيدة لما وصلنا إليه...
وهذه ليست القضية كلها...
إنها مجرد لمحة...
لمحة ومقدمة لموضوع هذه المقالات القادمة...
لمحة لعلها تدفعنا إلى أن نعترف بأننا لم نعد شعباً عظيماً...
لقد أصبحنا شعباً بغيضاً..